Overblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog

طومبيزا-رائعة رشيد ميموني

لقد سعيت، مؤخّرا، إلى اكتشاف مؤلفات رشيد ميموني، أحد أهمّ الكتّاب الجزائريين، الذي بدأ مشوراه أثناء مرحلة مفصلية من الحياة السياسية والنشاط الثقافي لبلدنا وهي نهاية حقبة السبعينيات و بداية الثمانيات التي شهدت ما اعتبره البعض انفتاحا سياسيّا، رغم أنّ تلك التغيّرات قد أدّت للأسف إلى الأحداث المأساوية للخامس من أكتوبر 1988.

على الصعيد الأدبي، يقع رشيد ميموني بين جيل السبعينات وجيل العشرية السوداء الّذي تأثرّ بكتبه بالتأكيد. أكثر رواياته شهرة هي النّهر المحوّل وشرف القبيلة، لكنّ شيء ما دفعني إلى قراءة الجزء الثاني من ثلاثيته و هو طومبيزا وحقّا لم أشعر بخيبة ألم عند مطالعته، بل فُوجئت بجماليات هذا الكتاب المتمرّد والانتقامي الذي يقع في 327 صفحة رغم أنّه يبدو أطول لكثرة القصص التي يحتويها و التي تندرج ضمن الحكاية الكبرى التي هي تاريخ الجزائر، كما أنّ الرواية تطرح عدد كبير من الأفكار المهمّة حول الكثير من المواضيع بما يجعل من الصعب تلخيصها في مقال واحد.  هذا دون الحديث عن أسلوب الكاتب الحادّ والعنيف الذي لا يخلو أبدا من الموسيقى والجماليات، مع استعمال ألفاظ دقيقة ومنتقاة، كأنّها نُحتت من الحجارة.

رجوعا إلى محتوى الكتاب، تنفتح رواية  طومبيزا على خواطر رجل قد خرج لتوّه من حالة الغيبوبة، وهو مستلقي على فراش في مستشفى يبدو وكأنّه في حالة مزرية. يحاول هذا الرجّل أن يتذكّر كيف انتهى به الأمر إلى هذا المكان قبل أن يجري وصفا دقيقا عن المدينة التي يقطن فيها، ولكنّ ذاكرته تنجذب نحو ذكريات حياته الماضية.

في البداية يفهم القارئ أنّ طومبيزا (هذا إسمه) يعتبر نفسه ضحيّة في أولّ الأمر. لقد رُفض منذ ولادته في قرية جزائرية أثناء فترة الاستعمار الفرنسي.  ينبذه ذويه وجيرانه أيضا بسبب مظهره البشع. وهكذا يصبح الفتى عدوانيّا وقاسيا، كما أنّه يلاحظ النفاق والرياء المرتبطان بالتقاليد. رغم هذا يريد أن يتعلّم ولكنّه يُمنع من ذلك.   كما يقول تومبيزا نفسه: "من المعروف أنّه ماعدا الجيف لا تهاجم الضباع سوى الحيوانات المجروحة والضعيفة التي أصبحت تزحف في الغابة. الضباع هي أكثر الحيوانات جبنا، ولهذا فهي أيضا الأكثر شراسة". (صفحة 53).

فيما بعد أصبح طومبيزا عاملا عند معمّر فرنسي فكان شاهدا على الظلم الاستعماري، رغم هذا يريد أن يحصل على نصيبه من الكعكة.  هنا تظهر بوادر الغموض الأخلاقي لهذه الرواية الذي سيبلغ ذروته عندما يشتغل طومبيزا في مخيّم لتجميع الجزائريين من أجل فصلهم عن جيش التحرير الوطني. بطبيعة الحال، ينتقد رشيد ميموني الاستعمار الفرنسي ودور "الحَركة" دون مجاملة، لكن تبقى هناك مناطق الظلّ حول حرب التحرير الوطني بسبب الالتباس الذي ميّز تلك الفترة التي شهدت تسويات خلافات بين الأسر وتبدلات مفاجئة لا صلة لها بأيّة قناعات سياسية. وكلّ براعة رشيد ميموني تكمن في قدرته على تصوير ما يصعب وصفه وإلقاء الضوء على مناطق الظلّ بقدرته السردية الرائعة التي تتطلب ربّما عدّة قراءات من أجل استيعاب كلّ تفاصيل الحكاية التي لا تنحصر بالطبع على الحقبة الاستعمارية، بل تعالج بشكل مطوّل كلّ المشاكل التي عاشتها جزائر ما بعد الاستقلال، لا سيما قطاع المستشفيات التي يشغل وصفها المدقق جزء كبير من الرواية، خاصة عندما يصبح طومبيزا ممرّضا في مستشفى للأمراض الخطيرة يعاني من عدة مشاكل. هنا يرتقي طومبيزا في السلّم ليس بالضرورة للاستغناء بل للانتقام من المجتمع الذي احتقره منذ طفولته، ولهذا يسعى دوما لأن يؤثّر على الآخرين و أن يتحكّم فيهم، حتّى في أبسط أمور الحياة اليوميّة.

الشيء المربك أكثر في هذه الرواية هو أنّ طومبيزا لا يبدو مباليا بالمبالغ المالية الضخمة التي تقع بين يديه إلّا إذا سمحت له بإحكام سيطرته على الآخرين وتسوية حساباته مع الحياة، هو الذي أتى إلى الحياة دون اسم أثناء فترة الاستعمار، مع أنّ تلك المرحلة كانت تقتضي أن يتضامن الجزائريين فيما بينهم.

من الواضح أنّ رشيد ميموني أراد هنا أن يثير مسألة الهوية الفردية والجماعية وأهميتها في تكوين الأفراد والأمم.

تقدّم الرواية أيضا طرحا حول الأنظمة الشمولية، سواء كانت ذات طابع اشتراكي، ديني أو غيرها، والتي تكبح الإرادة الفرديّة بحرمان الإنسان من الحريّة ولكن أيضا من حسّ المسؤولية، وهذا ما يؤدّي إلى ظهور النفاق في المجتمع وبزوغ أمثال طومبيزا الذي يتصرّف كالحرباء، منتقلا من طرف لآخر أثناء فترة الاستعمار، ثمّ يصبح بعد الاستقلال كالمتلاعب بالدّمى مع الشعور بأنّه حرّ ومتفوّق على الآخرين، حتّى ولو أنّ وضعه الاجتماعي لا يتطوّر كثيرا سوى عند نهاية الرواية.  الأهمّ بالنسبة إليه هو فقط استيفاء معايير "حكمته الشخصية" الّتي لا تميّز بين الخير والشرّ.  لكنّ طومبيزا سيكتشف في الأخير كما يقوله في مقطع من الكتاب: "ألسنا بحاجة إلى تلك القيم المتسامية كي نتحمّل وضعنا المرزي كعميان متشردين (...) لو كنّا أحرارا دون أيّة قيود، فما الذي يبرّرنا؟"   

يتمكّن رشيد ميموني هنا، ببراعة، من التنديد في نفس الوقت بالأنظمة الديكتاتورية الجماعية وبالنزعة الفردانية المتطرّفة.

ويبقى المستشفى، في هذه الرواية، النموذج المصغّر للمجتمع ككلّ، مع علاقات القوى والتلاعبات التي كثيرا ما تعوّض الإكراه عندما يصبح عديم الجدوى، وهكذا تكمن الحيلة في أن يتظاهر المرء بالضّعف قبل أن ينقضّ على ضحيّته عند أوّل فرصة.  وكلّ المتآمرين هم بحاجة إلى طومبيزا الذي يحتاج إلى غيره لغرض إذالتهم، لاعبا تارة دور الشيطان، وتارة دور مَلَك متناقض ومنتقم.

يجب قراءة وإعادة قراءة هذه الرواية.

 

إلياس فرحاني      

    

 

Tag(s) : #Arabe
Partager cet article
Repost0
Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :