سولت لي نفسي مؤخرا البحث عن عدد قديم و مفيد لمجلّة العربي التي مازلت أحتفظ بنسخ عديدة منها، و هي المجلة الكويتيّة التّي اختفت من رفوف المكتبات الجزائرية منذ زمن الأن (تقريبا عشر سنوات) مع أنّها كانت منبعا للمعلومات و الأفكارعلى اختلاف مشاربها، سواءا ما تعلّق منها بالعالم العربي و الاسلامي أو بنتاج الحضارة الغربية، كما تميّزت المجلة ياستطلاعاتها الشيّقة و المفيدة في مختلف مناطق العالم، علاوة على وجود أبواب ثابتة مثل الطرائف والكتب الجديدة و آخر الاكتشافات العلميّة، كلّها أسباب جعلتني أتأسف من غباب هذه المجلّة الى أن اهتديت لأمرهام، وهو أن بعض الأفكارلا يمرّ عليها الزمن و تبقى صالحة اذا عرفنا كيف نستخدمها. خير دليل على هذا هو اقبال الكثيرين (وأنا من بينهم) على متابعة برامج و حوارات قديمة على شبكة الأنترنت في يوتوب، للاطّلاع على محتوى أعمال مفكرين و مبدعين موهوبين، لا زالت أفكارهم تجد صدى في وقتنا الحالي. لماذا اذن لا يكون الأمر مماثلا بالنسبة لعدد قديم من مجلّة ثقافية شهريّة غير ملزمة بتقصي الأحداث اليوميّة التي تتواتر في الصحف بقدر ما تهتمّ برصد التحولات العميقة في ميادين العلوم و الفلسفة و الأداب، وهذا هو شأن مجلة العربي بالظبط.
سعيت اذن الى البحث عن نسخة قديمة تشفي غليلي و أولّ عدد وقعت عليه مقلتاي كان مخصّص، في جزء كبير منه، لبلد المغرب. بدأت أتصفح المجلة فشدّ انتباهي مقال للدكتورجابر عصفور من مصر، يتحدّث فيه عن تجربته في قراءة قصص ألف ليلة و ليلة و كيف أثّرت فيه و دفعته، على نحو ما، الى عالم الرواية. لكنّ ما أثار انتباهي في هذا المقال متعلّق بالجانب "النسوي" لكتاب ألف ليلة و ليلة وهوأمر قد يستغربه البعض للوهلة الأولى، فصحيح أنّ هذه القصص تبدو و كأنّها تكرّس لنوع من النظرة الدونيّة للمرأة حيث أنّ معظم النساء في الكتاب يدبّرن الحيل و يختلقن الدسائس لبلوغ أهدافهنّ. و جابر عصفور نفسه ذكّر بالأبيات "التحذيرية" التي تستهل بها ألف ليلة و ليلة قصصها
لا تأمنن الى النساء ولا تثق بعودهنّ
يبدين ودا كاذبا والغدر حشو ثيابهن
قبل التعمق في الفهم يجدر بنا أن نعيد في الأّذهان حكاية شهريار. شهريار هو السلطان الذي خانته زوجته مع عبد حبشي ( و هنا يشيرجابر عصفور أيضا الى تكريس الكتاب لنوع من الفكر النمطي ضد الزنوج) طبعا تثور ثائرة شهريار ويعزم على قتل زوجته و العبد، و لا يتوقف الأمر هنا بل يقرر الزواج من امرأة كلّ يوم ليتمتّع بها في الليل قبل أن يقتلها خوفا من أن يخان مرّة أخرى. و لتنجوالنساء البكرتعلن شهرزاد لوالدها أنّها ستتزوّج شهريارلكي تغيّر من طباعه بفضل السحرالذي تملكه أي سرّ الحكي. و هكذا تقص شهرزاد حكاية للسلطان في الليل وتتوقف مع علامات الصباح عند نقطة حاسمة من الحكي فتثير فضول شهريارالذي يريد سماع المزيد من الحكي، فلايقتل شهرزاد، يتركها تنام و ينام هو الأخر، ثمّ يتكرّر الأمر في ليلة أخرى ووهكذا دواليك حتّى الليلة الواحدة بعد الألف، حيث يتّخذ شهريارمن شهرزاد حبيبة و زوجة و كذلك أمّا لأطفاله.
ينجلي بوضوح أنّ شهرزاد لم تنل اعجاب السلطان بمفاتنها بل بذكائها، و لهذا يمكن أن نقول أنّها شخصيّة نسويّة على نحو ما، ليس بمعنى النسويّة المعادية للرجل بل المتكاملة معه، و حتّى المؤثّرة فيه، فبعد سماع قصص ألف ليلة و ليلة يتحوّل شهريارمن سلطان باطش الى رجل حكيم، و حكاية ألف ليلة و ليلة هي كناية عن انتصار العقل على القوّة المادية، وتبقى مجالا للدراسة وفتح آفاق جديدة بعيدا عن الكتب التي حصرت دور المرأة و الرجل في ثنائيّات كالسكون و الحركة مثلا في مؤلّفات الكاتب اليبي ابراهيم الكوني أو الألماني غونتر غراس في ورايته الكبيرة سمك الترس الذي يرصد فيه تحول العلاقات بين الرجال و النّساء عبر التاريخ، مشددا على ميل الرجال للترحال وانسجام النساء مع الطبيعة، أي ثنائيّة الروح و الجسد. و تلقي الكاتبة الأمريكيّة جويس كارول أوتس نفس النظرة على علاقة الرجل بالمرأة عبر العصور، بالأخصّ في روايتها ملعونون أين تصوّر الرّجال، على اختلاف أعمارهم و طبقاتهم الاجتماعيّة، كمحاربين دوما مستعدّين للتشاجر من أجل الدفاع عن شرفهم. وهكذا تكرّس هذه الروائية لنوع من التفكير النسوي لا يمكن أن يوصف بالتكاملي في علاقته مع الرجل، مثلما هو الحال مع شخصيّة شهرزاد، و لكن حيل النساء في بعض من قصص الف ليلة و ليلة هي التي رسخت في أذهان القرّاء أو الباحثين و حجبت البعد النسوي لشهرزاد. يمكن أيضا أن نضيف أنّ كتاب ألف ليلة و ليلة لم ينل حقّه من الدراسة لأنّ الكثيرون اعتبروه أدبا شعبيّا لا يرتقي الى مستوى كتاب كليلة و دمنة أو مقامات الحريري، والقراءات الاستشراقية عزّزت هذا الموقف. مع هذا، فهناك أعمال أدبيّة تضمّنت فكرا نسويّا تكامليّا، لايتّسع المكان لحصرها، غيرأنّها تذكّرنا بشكل أو بآخربشهرذاد التي اسعملت عقلها وأخضعت رجلا طاغ لسلطان العقل والحكمة.